بناء المعرفة التجريبية

رمي قطعة نقد
  • مقدمة

تحدثنا في مقال سابق عن كيفية الوصول إلى المعرفة. ووجدنا أن الملاحظة والتجربة هما الطريق الأنجع لتحديث قناعاتنا وبناء معرفة أفضل للعالم الذي نتفاعل معه.

ولكن كيف نترجم الملاحظة والتجربة إلى خطوات عملية توصلنا إلى تلك المعرفة المرجوة؟ هذا ما سنتحدث عنه في هذا المقال.

قد يحتوي هذا المقال بعض التفاصيل الرياضية التي لا بد منها، ولكننا سنحاول تبسيطها قدر الإمكان لإيصال الفكرة للقارئ. أما لمن أراد التبحر في دقائقها وبراهينها، فنترك ذلك للمصادر المذكورة في نهاية المقال.

  • النظرية والواقع:

في البداية، علينا أن نعرّف الفرض والطلب في ما نحاول الوصول إليه.

الفرض هنا هو أنه لدينا عدة نظريات متنافسة في تفسير ظاهرة معينة. والنظرية في هذا السياق هي فكرة أو نموذج تدعي أنها صحيحة وتمثل العالم الذي نلحظه وندرسه. فمثلاً، إذا حاولنا تفسير ظاهرة البصر، فقد يكون هنالك نظرية تقول بأن العين تبصر بإصدارها أشعة، بينما قد تقول نظرية أخرى بأن البصر نتيجة ورود أشعة إلى العين.

أما الطلب، فهو الوصول إلى النظرية الصحيحة بين تلك النظريات المقترحة.

ما نحاول القيام به هنا هو اختبار مصداقية عدد من النظريات. أما من أين نأتي بالنظريات أساساً، فهذا بحث آخر يحتاج إلى تمحيص مستقل دون أن يؤثر على بقية المقال. ويكفي القول بأن الدماغ بشبكاته العصبية المعقدة قادر على أن يجد نماذج وأنماط معينة تكون بذرة لتلك النظريات.

نلاحظ هنا أننا نبدأ في فرضنا من الشك. حيث أننا لا نعلم إن كانت أي من النظريات المتنافسة صحيحة أم خاطئة. ونستطيع أن نستشعر ضرورة إدخال مفهوم الاحتمالات للتعبير عن هذا الشك، وهو موضوع الفقرة التالية.

  • الاحتمال:

الاحتمال هو فرع من فروع الرياضيات يعنى بدراسة الشك وإعطائه قيماً محدّدة تسهّل فهمه والتعامل معه ومقارنته. ويعبّر عن الاحتمال بقيمة بين الـ0 (0%) والـ1 (100%). فالاحتمال 0 يعني أن النتيجة مستحيلة، والاحتمال 1 يعني أن النتيجة مؤكدة، والقيم بينهما تعبر عن انخفاض أو ارتفاع الاحتمال.

فمثلاً إذا قلنا أن احتمال هطول المطر غداً هو أعلى بعض الشيء من اليوم، فقد لا يكون واضحاً لدينا مقدار الفرق أو حتى إن كان هطول المطر غداً أمراً شبه مستحيل أو شبه مؤكد. أما إن قلنا أن احتمال هطول المطر غداً هو 70% بينما احتماله اليوم هو 50%، فسيكون لدينا صورة أوضح وأدق.

وفي أغلب الحالات، يظهر الشك بسبب النقص في معلوماتنا. فلو كان لدينا معلومات مطلقة عن الظاهرة، لأمكننا بشكل قاطع إعطاء قيمة الاستحالة (أي 0) أو التأكيد (أي 1) للنتيجة. فمثلاً، عندما نقلب قطعة نقود في الهواء، فنحن لا نعلم سرعتها وسرعة دورانها واتجاهها ومقاومة الهواء لها بشكل مطلق، ولذلك لا يمكننا القطع فيما إذا كانت ستعطي طرة أو نقشاً. ومن ذلك الشك يظهر مفهوم الاحتمال في رمي قطعة النقد في الهواء.

وقد نتساءل عن المعنى الحقيقي للقيمة المعينة لاحتمال ما. وسنجد مدرستان متنافستان تاريخياً في هذا المجال، وسنقوم بالحديث عنهما كونه أمراً مهماً لفهم فلسفي أعمق لما نحاول الوصول إليه.

المدرسة التكرارية (Frequentist School)

تعرّف هذه المدرسة الاحتمال من منطلق إحصائي بحت. فللتوصل لاحتمال حدث معين، نجري التجربة عدداً “كافياً” من المرات، ثم نحصي نسبة مرات تحقق الحدث إلى عدد التجارب الكلي.

فمثلاً، إذا أردنا معرفة احتمال ظهور الطرة عند رمي قطعة نقود، يمكن أن نرمي قطعة النقود 10 مرات، فإن حصلنا على طرة 6 مرات منها، فسيكون احتمال الطرة:  \(P(head) = \frac{6}{10} = 0.6 \)

وبديهياً، يمكن أن نرى بأن هذا الاحتمال يختلف عمّا نتوقعه من احتمال متساوٍ للطرة والنقش، أي 0.5. والسبب هو أننا أجرينا عدداً قليلاً من الرميات. فحتى نستطيع أن نحصل على الاحتمال الأكثر دقة، علينا أن نجري عدداً غير منتهٍ منها. فكلما زاد عدد المحاولات، كلما كان الاحتما أكثر دقة.

ومن المهم أن نرى هنا بأن المدرسة التكرارية تعتبر بأن العينة المدروسة هي الحَكَم في تحديد الاحتمال للتنبؤ بالمشاهدات المستقبلية. وهنا يكمن القصر في هذا المنهج. حيث أن العينة المأخوذة قد تكون ضئيلة، أو غير معبرة عن جميع الحالات الممكنة، أو حتى متغيرة مع الزمن. وحتى لو سمحنا لمجال معين للخطأ في القياس، فإن هذا الخطأ سيكون فرضياً ولا ينبثق من الإحصاء نفسه.

مدرسة بيز (Bayesian School)

تنسب هذه المدرسة إلى الفيلسوف والرياضي الانكليزي من القرن الثامن عشر توماس بيز (Thomas Bayes). وما يميز منهجها عن المنهج التكراري هو أن فلسفتها تعتمد على القبول سلفاً بأن المعرفة الاحتمالية غير موضوعية. فهي لا تعبر عن احصاء موضوعي مستقل لظاهرة معينة، وإنما هي تعبير لدرجة إيماننا بظاهرة معينة بناءً على المعطيات والمشاهدات المتوفرة، والتي يمكن أن تتغير مع ظهور مشاهدات جديدة.

فمنهج بيز لا يجري إحصاءً ثم يعلن أنه نهائي مع افتراض وجود مجال للخطأ فيه، وإنما يبدأ باعتقاد معين ومن ثم يعدله كلما توفرت دلائل وبينات جديدة.

وتأتي قوة هذا المنهج من الاعتراف بحقيقة كوننا عاجزين عن إجراء عدد لامنتهٍ من التجارب والملاحظات أو معرفة كل العوامل المحيطة بالظاهرة، وخصوصاً عند محاولتنا توقع نتيجة من الصعب تكرار عواملها، كولادة الكون أو نتيجة مباراة معينة بذاتها.

فإذاً، وانطلاقاً من حدسنا (a priori)، نكوّن إيماناً مبدئياً، ومع دراسة المشاهدات الجديدة كلما توفرت، نحدد ما إذا كان إيماننا سيزيد أو ينقص بناء على موافقته أو مناقضته لتلك المشاهدات، وهذا ما نسميه بمنهج التعلم البيزي (Bayesian Learning).

رياضيات علوم  بناء المعرفة التجريبية ScientificMethod-300x168

مثال على التعلم البيزي (Bayesian Learning)

لنعد إلى مثال رمي القطعة النقدية. لنفرض أن لدينا قطعة نقدية، ولنفرض أن لدينا ثلاث نظريات:

  1. النظرية H1: رمي القطعة دائماً يعطي طرة.
  2. النظرية H2: رمي القطعة يعطي طرة ربع المرات ونقشاً الثلاث أرباع الأخرى.
  3. النظرية H3: رمي القطعة يعطي طرة نصف المرات ونقشاً النصف الآخر.

لنفرض أننا نعلم بشكل قاطع أن إحدى هذه النظريات صحيحة والأخرى خاطئة 1

نريد أن نعلم أي النظريات أصح. بداية، نختار أن نعطي احتمالاً مبدئياً لكلٍّ من تلك النظريات لأننا لا نعلم أيها الأصح، ولا نفضّل إحداها على الأخرى. أي \(P(H1) = \frac{1}{3} \) و \(P(H2) = \frac{1}{3} \) و \(P(H3) = \frac{1}{3} \)

ثم نبدأ بإجراء التجارب و تغيير اعتقادنا بناء على النتائج وتوافقها أو تناقضها مع كل من النظريات.

وبدون الخوض في التفاصيل الدقيقة لاستخراج قانون بيز، نغير اعتقادنا بناء على المعادلة التالية:

 \(P(H | E) ∝ P(E | H) \times P(H) \)

ومعنى ذلك أن اعتقادنا بالنظرية بعد دراسة نتائج التجربة \( P(H | E) \) يتناسب طرداً مع (يزداد بازدياد ويتناقص بنقص) احتمال تفسير نتائج التجربة من خلال النظرية \( P(E | H) \). فكلما كانت النظرية أكثر قدرة على تفسير النتائج كلما زاد احتمالها، والعكس صحيح. وكذلك تتناسب مع معتقدنا قبل التجربة \( P(H) \).

لنفترض أننا رمينا القطعة عشر مرات، ونتج لدينة السلسلة التالية من الطرة (h) والنقش (t):

 \( t\,h\,h\,t\,h\,t\,t\,h\,h\,h \)

أي أن الرمية الأولى كانت نقشاً، والثانية طرة،… وهكذا.

بعد مشاهدة الرمية الأولى، نستخد قانون بيز لتعديل اعتقادنا:

 \(P(H1 | t) ∝ P(t | H1) \times P(H1) = 0 \times  \frac{1}{3} = 0 \)

نجد أن الاحتمال صفراً لأنه لا يمكن تفسير الفرضية الأولى التي تقول بأن القطعة النقدية دائما تعطي طرة عندما نرى نقشاً. أي أن \( P(t | H1) = 0 \).

أما بالنسبة للنظرية الثانية:

 \(P(H2 | t) ∝ P(t | H2) \times P(H2) = \frac{3}{4} \times  \frac{1}{3} = \frac{1}{4} \)

ذلك لأن احتمال تفسير النقش من خلال النظرية \( P(t | H2) = \frac{3}{4} \) لأن النظرية تقول بأن رمي القطعة يولد نقشاً ثلاث أرباع المرات.

وأخيراً بالنسبة للنظرية الثالثة:

 \(P(H3 | t) ∝ P(t | H3) \times P(H3) = \frac{1}{2} \times  \frac{1}{3} = \frac{1}{6} \)

إذاً،  \(P(H1 | t) ∝ 0 \) و  \(P(H2 | t) ∝ \frac{1}{4} \) و  \(P(H3 | t) ∝ \frac{1}{6} \)

وهذا يعني أن احتمال صحة النظرية الثانية هو الأعلى. نلاحظ أن مجموع هذه الاحتمالات ليس 1. ولذلك استعملنا إشارة التناسب (∝) وليس المساواة (=). ولجعل المجموع مساوياً للـ 1، نقسم النتائج على المجموع الكلي. أي:

\(P(H1 | t) = \frac{0}{0 + \frac{1}{4} + \frac{1}{6} }= 0\)

\(P(H2 | t) = \frac{\frac{1}{4} }{0 + \frac{1}{4} + \frac{1}{6}  }= \frac{3}{5} \)

\(P(H3 | t) = \frac{\frac{1}{6} }{0 + \frac{1}{4} + \frac{1}{6} }= \frac{2}{5} \)

هنا يصبح مجموع كل الاحتمالات 1. إذا نظرنا إلى هذه النتيجة، وجدنا بأنها منطقية. فبعد مشاهدة النقش، يدفعنا هذا إلى الاعتقاد بأن احتمال ظهور النقش أكبر من الطرة بناء على تلك الرمية الوحيدة.

ماذا يحدث عند إجراء الرمية الثانية التي تعطي طرة؟ نطبق نفس القانون. ولكن هذه المرة، الاحتمالات المبدئية ستكون الاحتمالات التي توصلنا لها المرة الماضية، أي \({0, \frac{2}{5} , \frac{3}{5} } \) فهذه الاحتمالات هي الافضل بناء على ما لاحظناه حتى الآن (رمية واحدة).

تكون الاحتمالات الجديدة بناء على الرمية الثانية:

 \(P(H1 | h) ∝ P(h | H1) \times P(H1) = 1 \times  0 = 0 \)

 \(P(H2 | h) ∝ P(h | H2) \times P(H2) = \frac{1}{4} \times  \frac{3}{5} = \frac{3}{20} \)

 \(P(H3 | h) ∝ P(h | H3) \times P(H3) = \frac{1}{2} \times  \frac{2}{5} = \frac{1}{5} \)

,وبالقسمة على المجموع:

\(P(H1 | h) = \frac{0}{0 + \frac{3}{20} + \frac{1}{5} }= 0\)

\(P(H2 | h) = \frac{\frac{3}{20} }{0 + \frac{3}{20} + \frac{1}{5} }= \frac{3}{7} \)

\(P(H3 | h) = \frac{\frac{1}{5} }{0 + \frac{3}{20} + \frac{1}{5} }= \frac{4}{7} \)

نلاحظ هنا أنه بعد مشاهدة الطرة أصبح اعتقادنا بالنظرية الثالثة أعلى لأنها تتنبأ بالطرة (نصف المرات) أكثر من الثانية (ربع المرات).

كما نلاحظ أن النظرية الأولى بقيت صفراً وذلك لأن اعتقادنا المبدئي كان صفراً بالأصل حيث أن النظرية فشلت فشلاً تاماً في تفسير الرمية الأولى فلا يمكن أن تكون نظرية صحيحة.

وبمتابعة نفس الحسابات للرميات الباقية نصل إلى النتائج التالية:

 

التعلم البيزي ورمي القطعة النقدية

رقم الرميةالاحتمال البدئي (الحدس)الرمية 1الرمية 2الرمية 3الرمية 4الرمية 5الرمية 6الرمية 7الرمية 8الرمية 9الرمية 10
النظرية الأولى H1\(\frac{1}{3}\)≈ 33%\(0\)= 0%\(0\)= 0%\(0\)= 0%\(0\)= 0%\(0\)= 0%\(0\)= 0%\(0\)= 0%\(0\)= 0%\(0\)= 0%\(0\)= 0%
النظرية الثانية H2\(\frac{1}{3}\)≈ 33%\(\frac{3}{5}\)= 60%\(\frac{3}{7}\)≈ 43%\(\frac{3}{11}\)≈ 27%\(\frac{9}{25}\)≈ 36%\(\frac{9}{41}\)≈ 22%\(\frac{27}{95}\)≈ 28%\(\frac{81}{217}\)≈ 37%\(\frac{81}{353}\)≈ 23%\(\frac{81}{625}\)≈ 13%\(\frac{81}{1169}\)≈ 7%
النظرية الثالثة H3\(\frac{1}{3}\)≈ 33%\(\frac{2}{5}\)= 40%\(\frac{4}{7}\)≈ 57%\(\frac{8}{11}\)≈ 73%\(\frac{16}{25}\)≈ 64%\(\frac{32}{41}\)≈ 78%\(\frac{68}{95}\)≈ 72%\(\frac{136}{217}\)≈ 63%\(\frac{272}{353}\)≈ 77%\(\frac{544}{625}\)≈ 87%\(\frac{1088}{1169}\)≈ 93%
يبين هذا الجدول تغير معتقدنا عن القطعة النقدية مع مرور الوقت واجراء المزيد من الرميات.

نلاحظ أنه رمية بعد أخرى، يرتفع لدينا احتمال النظرية الثالثة بالنسبة للنظريات الأخرى. وهذا يعكس مدى تفسير النظرية الثالثة لنتائج الرميات. ففي الرميات العشر، كان لدينا 6 مرات طرة، وهو تقريباً نصف عدد الرميات. بينما النظرية الثانية التي تقول بأن ربع عدد الرميات سيكون طرة، لم تكن موفقة بناء على ملاحظات التجربة.

وجدير بالانتباه كيف أن النظرية الأصح ازداد احتمالها بشكل واضح مقارنة بالنظرية الأخرى مع الوقت كما يبين هذا الخط البياني:

استيعاب الاحتمال البيزي

بعد أن شرحنا كيفية عمل الاحتمال البيزي وطبقناه على مثال بسيط، سنحاول أن نتكلم عن جوهره واستنباط معناه الحقيقي المستخلص من التفاصيل الرياضية.

بالنظر إلى مثال رمي قطعة النقد، رأينا كيف أن معرفتنا تطورت رمية تلو الأخرى. وكلما ازداد عدد الرميات، سعت الاحتمالات إلى الازدياد أو النقصان بشكل مطّرد. ولو رمينا قطعة النقد 100 مرة بدلاً من 10، لكانت الاحتمالات أدق، ولقاربت النظرية H3 الـ 100% أكثر فأكثر، بينما قاربت النظريات الباقية الصفر. فالاحتمال الأكثر دقة يكون مبنياً على مشاهدة جميع الرميات الممكنة، أو أكبر عدد ممكن إن كان لا نهائياً.

ولكن علينا أن ننتبه لعدة نقاط هنا:

  • أهمية الشك:

    بالنظر إلى عامل الضرب الأول في قانون بيز، أي مدى إيماننا بالنظرية قبل التجربة \( P(H) \)، نجد أنه احتمالٌ تتراوح قيمته بين الـ 0 والـ 1. لاحظ أنه إذا كان الاعتقاد بالنظرية قبل التجربة 0، فإن الاعتقد بعد التجربة سيكون صفراً أيضاً لأن \( \begin{aligned} P(H | E) ∝ P(E | H) \times P(H) =P(E | H) \times 0 = 0 \end{aligned} \).
    ما معنى هذا؟ معنى هذا أنه إذا بدأت تجربتك وأنت على يقين بأن النظرية غير صحيحة، فإن يقينك لن يتغير بعد التجربة مهما كانت النظرية جيدة في تفسير نتائج التجربة.
    من المهم التفكّر في هذا الأمر. ببساطة، لا معنى لمحاولاتك في الوصول إلى معرفة أفضل إذا كنت متيقناً بأن النظرية خاطئة. ولاحظ أن هذا اليقين يأتي من المراقب، وليس من التجربة نفسها. فإذا كان المراقب صادقاً في نيّته أن يتبين صحة أو خطأ النظرية، فعليه أن يتيح مجالاً ولو لقليل من الشك في معتقده عنها.
    ونفس الكلام ينطبق على الاعتقاد المطلق بصحة النظرية. فهذا بالضرورة يعني الاعتقاد المطلق بخطأ باقي النظريات المضادة، مما يدخلنا في نفس المشكلة.

  • المعرفة المطلقة غير ممكنة:

    كما رأينا في مثال رمي القطعة النقدية، من الممكن رفض نظرية رفضاً قاطعاً إذا كانت غير قادرة بتاتاً على تفسير نتائج التجربة كما حدث بالنسبة للنظرية H1. ولكن بالمقابل، لا يمكن إثبات نظرية ما إثباتاً قاطعاً 100%2. ولتوضيح هذه النقطة المهمة بدون الدخول في تفاصيل رياضية بحتة، نأخذ المثال التالي:
    لنتأمل شروق الشمس كل يوم، ولنسأل السؤال التالي:

     هل ستشرق الشمس غداً؟

    قد نقول بديهياً بأننا متأكدون وبشكل قطعي بأنها ستشرق لأننا ومنذ فجر البشرية راقبناها ووجدناها تشرق كل يوم. وقد نكون متعجلين في القول بأنه إن كان لدينا النظريتين:

    1. النظرية H1: الشمس تشرق كل يوم
    2. النظرية H2: الشمس قد لا تشرق كل يوم

    ولو طبقنا قانون بيز على مشاهداتنا لشروق الشمس كل يوم، بادئين باحتمال 50% لكل من النظريتين، سينتج لدينا الخط البياني التالي3 :

    نلاحظ أن إيماننا بالنظرية الأولى يقارب ال 100%، ولكنه لا يصلها، وهذه مسألة جوهرية. فحتى لو راقبنا الشمس لآلاف السنين، فسيكون هنالك دوماً ولو احتمال واحد في المليار بألا تشرق في الغد. وهذا الارتياب أمر مهم في البحث العلمي. فمهما كانت النظرية قادرة على تفسير المشاهدات السابقة، هنالك دوماً احتمال بأن تكون المشاهدة القادمة مخالفة للنظرية.
    ومن الأمثلة الأهم على عدم كمال العلم تفسيرات نيوتن وأينشتاين للحركة. حيث أن قوانين نيوتن للحركة كانت تعتبر صحيحة لقدرتها على تفسير جميع الظواهر لأكثر من قرنين بدقة عالية. ولكن مع تقدم التكنولوجيا وأدوات الرصد، بدأت تظهر بعض المشاهدات المخالفة بشكل طفيف لتنبؤات قوانين نيوتن. وهنا أوجد أينشتاين نظريته النسبية الأكثر شمولاً وصحة. ومن يدري لعلنا سنحتاج إلى نظرية أخرى في المستقبل لتكون أكثر شمولاً ودقة بناء على قياسات أكثر دقة قد تكشف قصراً في النظرية النسبية.

  • موضوعية الطريقة العلمية:

    من المهم أن ندرك أن حدسنا في البداية عن احتمال النظريات المتنافسة غير مهم. بالعودة إلى مثال شروق الشمس، لنفرض أنني شخص عنيد وأعتقد بأن احتمال عدم شروق الشمس في الغد هو 99% بدلاً من 50%، ومن ثم احتكمت لنفس المشاهدات السابقة، فسيتكون الخط البياني التالي:

    نلاحظ أنه حتى عندما بدأنا باحتمال ضعيف جداً للنظرية الأولى، مع الوقت وباستعمال نفس المشاهدات، استطعنا أن نصل إلى ثقة كبيرة في صحتها. وهذه نتيجة مهمة. فما دام المراقبون المختلفون يستعملون نفس المشاهدات ولو بدأوا بآراء مختلفة (طالما لم تكن اعتناقاً أو رفضاً تاماً لأي من النظريات)، فسوف يصلون إلى نفس النتيجة وإن تطلب الأمر بعضهم وقتاً أكثر من الآخرين. وهذا أمر مهم جداً في مجال البحث العلمي. فهو على المدى الطويل لا يتأثر بالآراء الشخصية وإن بدأ كل شخص برأيه الخاص.

  • خاتمة: تطبيق الاحتمال البيزي في الحياة العملية

إن الاحتمال البيزي هو الأساس التي تقوم عليه الطريقة العلمية. فعندما نأتي بنظرية أو تفسير معين لظاهرة، نقوم بإجراء تجارب أو مراقبة ظواهر متعلقة بهذه النظرية، وبناء على قدرة النظرية على تفسير ما نجده، ينقص اعتقادنا بها، مما يدفعنا إلى تصحيحها أو إيجاد بديل لها، أو يزداد اعتقادنا بها وتتكون لدينا معرفة أدق.

وعلينا أن نعمل بمبادئ الاحتمال البيزي في حياتنا بشكل يومي. فكلما قرأنا نصيحة في مجلة أو موقع، أو وصلتنا معلومة من شخص ما، نحاول أن نجمع أكبر عدد ممكن من البيانات المرتبطة، ونقيس قدرة ما وصلنا على تفسيرها، وهذا كفيل في تغيير رأينا نحو مزيد من الاقتناع أو التشكيك.

ولعل الدرس الأهم هو أن نبقي أنفسنا منفتحين على تغيير آراءنا تبعاً للمعطيات المستجدة، وأن لا نقع في فخ الإيمان بالمعرفة المطلقة. ففي يوم ما، كانت فكرة نسبية الزمن تعتبر نكتة. أما اليوم فنحن نعتبر النظرية النسبية هي الأدق في وصف حركة الأجسام. ويوماً ما، كانت فكرة عشوائية الكون غير مقبولة، حيث كان الاعتقاد السائد هو أن الكون يمشي بشكل حتمي كالساعة. أما الآن فعشوائية حركة الجسيمات النووية هي من صلب ميكانيك الكم.

وباتباع هذا المبدأ نكوّن أفضل معرفة ممكنة. ونستطيع أن نطمئن بأننا نسير على الطريق الصحيح طالما تمسكنا بالمعرفة المبنية على الواقع وبمنهج الشك، وأننا سنلتقي ونُجمع على صحة أو خطأ نظرية ما مهما كانت آراءنا في البداية مختلفة.

هامش

  1. طبعاً هذه فرضية مصطنعة فقط لتسهيل المثال. في الحياة اليومية يجب علينا أن نتأكد من أن نظرياتنا تغطي جميع الحالات الممكنة. فمثلاً، لتحقيق ذلك في مثالنا هذا نضيف النظرية الرابعة التي تقول بأن جميع النظريات الثلاث الأولى خاطئة
  2. نتحدث هنا عن النظريات التي تصف فضاء غير محدود من المشاهدات، كما هو الحال عندما نتحدث عن نظريات تحاول التنبؤ بحدث مستقبلي
  3. اعتبرنا هنا ان احتمال تفسير النظرية الاولى لشروق الشمس هو 100% لأن النظرية الأولى دائماً تتنبأ بشروق الشمس. بينما افترضنا أن احتمال تفسير النظرية الثانية لشروق الشمس هو 50% وذلك لأن الشمس قد تشرق وقد لا تشرق. فاعتبرنا أن الحالتان متسويتا الاحتمال. وطبعاً هذا تبسيط للمسألة. فالاحتمالان ليسا متساويين بناء على معرفتنا الفلكية المدعومة بالتقدم التكنولوجي التي تجعل احتمال عدم شروق الشمس أقل بكثير من شروقها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *